لماذا أمة محمد محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الأمم يوم القيامة، وأكثر من يدخل الجنة «طوبى للغرباء
وهنا سؤال يرد على الأذهان: لماذا أمة محمد محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الأمم يوم القيامة، وأكثر من يدخل الجنة، ففي الحديث: «ولما عرضت الأمم على النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال:
رأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد،
إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر
إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا
سواد عظيم، فقيل: هذه أمتك» [رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس].
الشاهد
من هذا الحديث أن سبب كثرة أمتنا يوم القيامة بمعجزة القرآن، فلماذا لا
ندعو الناس إليه، وإن أكثر الناس ما ضلّ إلا لما أعرض عن القرآن، فقد رغب
الله في كتابه فقال: }فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى{
[طه: 123]، وفي الحديث: «ما من الأنبياء نبي إلا كان له من المعجزات ما
آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن
أكون أكثرهم تبعًا يوم القيامة».
وقد يتساءل سائل فيقول: نحن نقرأ القرآن وحلقات القرآن موجودة ومدارس تحفيظ القرآن موجودة ولم ينتفعوا به؟
والجواب: قد ورد هذا السؤال على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فماذا كانت الإجابة: أخرج الإمام الترمذي عن أبي الدرداء قال: كنا مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم
فقال: «هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء»، فقال
زياد بن لبيد: كيف يختلس منا العلم وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه
ولنقرأنه نساءنا وأبناءنا، فقال: «ثكلتك أمك يا زياد، إن كنتلأعدك من فقهاء المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود، فماذا تغني عنهم»، وعند أحمد: «لا يعملون بشيء مما فيهما»فنحن بحاجة إلى أمرين:
الأمر الأول:
أن الكثير يقرأ القرآن ولكنه لا يتدبره، وقلبه غائب ساهٍ لاهٍ، فحاله كحال
الأرض التي تحيا بالمطر ولم ينزل عليها المطر، فلو كان في السماء سحب ورعد
وبرق ولم ينزل المطر فهل تحيا الأرض؟
الإجابة واضحة، وكذلك من يقرأ القرآن بفمه ولا يتدبره قلبه فهو كالسحب التي لم تمطر؛ لأن القرآن لم يتجاوز الحناجر، كيف وقد قال محمد صلى الله عليه وسلم «اللهم
اجعل القرآن ربيع قلوبنا»؛ وعليه، فالمطلوب أولاً حضور القلب، والفهم، ولا
يحصل إلا بالتدبر والرجوع إلى التفاسير، فمن تأمل القرآن وفتح قلبه انتفع،
وإلا لا.
الأمر الثاني:
الحرص على العمل به، لأنه إذا حفظ القرآن – وهذا أمر مطلوب استحبابًا،
وطيب – ولكن هل عمل بما حفظ؟! فإن حفظ ولم يعمل كان له خصمًا يوم القيامة
«رب حملته أياي فبئس الحامل، تعدى حدودي وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك
طاعتي، فلا يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به»، وفي الحديث «القرآن
حجة لك أو عليك» [رواه مسلم].
لكن
لماذا المسلمون اليوم يقرؤون القرآن ولم ينتفعوا به؟ لأنهم لم يأتوا
بالشروط، فقد اهتموا بالترتيل والتجويد والحفظ وتركوا العمل به.
لكن كيف كان أخذ الصحابة للقرآن؟ كانوا يأخذون القرآنمرتبًا،
وأخذوه أخذًا كاملاً لا ناقصًا، فلا يتجاوز الواحد منهم عشر آيات حتى
يتعلم تلاوتها وعلمها والعمل بها، فتعلموا العلم والعمل معًا. فما من عبد
يقرأ القرآن بتدبر وعلم إلا ويذهب الله عنه الشبهات والشهوات ويثبت قلبه
على الحق والهداية.
الثالث: حب السُّنَّة وكثرة قراءة السيرة؛ لأن الله قال: }وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ{
[هود: 120]، فثبت الله بقصص الأنبياء فؤاد رسوله، فكيف بقصة خيرهم
وسيدهم؟! فاقرأ سيرته العطرة، ومواقفه الجلية، فما من حادثة تمر بك إلا
وتجد لك أسوة في سيرة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
فهذه
السيرة تغنيك عن الترهات والأوهام، وهذه المصائب التي تعيشها الأمة، فإن
الله ابتلاها ولا يرفع عنها الذلة والبلاء حتى ترجع إلى دينها، كما في حديث
التبايع بالعينة «إذا تبايعتم بالعينة ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم
ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» [رواه مسلم].
وخصوصًا
في هذه الأزمنة التي اشتدت فيها الغربة، فاعتز يا هذا بدينك واثبت على
سبيله، قال الإمام الشاطبي: «هذا زمان الصبر، من لك بالتي كالقبض على
الجمر، فتنجو من البلاء؟».
واعلم
أننا في زمان الغربة فطوبى للغرباء، فمن تأمَّل أحوالنا فقد أصبحنا في زمن
اتباع الهوى، وفقد المعين، وعز من تلوذ به من الموحدين. بيعت فيه الذمم
ودارت فيه رحى الفتن والحروب، وانتشر المنافقون، وترادفت الضلالات؛ فالموحد
الصادق اليوم أعز من الكبريت الأحمر. وليس للمؤمن فيه مجيب ولا قابل لما
يقول، بل بُلي المؤمنون بكل منافق مفتون، واستحكمت الغربة.
ولكن
إنك إن كنت غريبًا فإن الله يرحم الغرباء، ما عمل فيه عامل إلا ضاعف الله
له أجر عمله، ففي الحديث: «للعامل فيه أجر خمسين» قالوا: منا أو منهم؟ قال:
«بل منكم؛ لأنكم تجدون أعوانًا على الخير ولا يجدون»، فطوبى للغرباء.
وإن سألت عن الغرباء مَن هم؟ فقد أجاب عن ذلك الصادق المصدوق، ففي مسند أحمد والطبراني عن ابن عمرو قال: قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم:
«طوبى للغرباء» قلنا: ومن الغرباء؟ قال: «قوم صالحون قليل في قوم سوء
كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم»، وفي لفظ: «الفرارون بدينهم يبعثهم الله
مع عيسى ابن مريم».
وورد في بعض طرق الحديث عن ابن مسعود: سمعت رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يقول:
«سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فرَّ بدينه من قرية
إلى قرية، ومن شاهق إلى شاهق، ومن جحر إلى جحر، كالثعلب»، قيل: متى ذلك يا
رسول الله؟ قال: «إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي الله».
واعلموا
أن أطيب الغربة غربة الدين لا غربة الدنيا، فبمجرد ما تلتزم بدين الله تجد
من أهلك وإخوانك وقرابتك من يلمزك ويستهزئ بك، وهكذا كانت الرسل وأتباعهم،
كانت تضيق عليهم الأرض بما رحبت، ولكن لا تضيق عليهم أنفسهم، فأنت إن كنت
غريبًا بين الناس فلست بغريب على رب الناس، فاعتز بدينك واثبت على سبيله،
فوالله ما وقفت لحظة يلمزك الناس بالاحتقار وبالكلمات الجارحات، إلا كان لك
عند الله مكان، وإن الله سيبوؤك مبوأ صدق فاصبر؛ فهذا موسى عليه السلام
بعد الأذية والاحتقار واللمز كان عند الله وجيهًا، كم من ملتزم كان حقيرًا
عند أهله وعشيرته فما مضت الأيام حتى بوأه الله مبوأ صدق، فأصبح آمرًا
وناهيًا.
كل شيء اليوم غربة في طاعة الله، حتى ولو كان في صلاته، أو إمام حي يجد الغربة؛ وكله امتحان، ولكن البشارة عظم الأجر عند الله تعالى.
يا
هذا اصبر لعل الله يثبت القلب على طاعته، فيمتحنك ثم يمتحنك، ثم يؤذى
المؤمن، ثم يؤذى المؤمن، ثم يؤذى؛ حتى يكون من السابقين السابقين، فيكون من
الثلة الآخرين، الذين جاء ذكرهم في سورة الواقعة.