بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأحوال التي يجوز فيها الكذب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد :
إن الكذب من أقبح الخصال وأشنع الصفات والخلال وهو يجعل الإنسان كالبهيمة التي لا يستفاد من نطقها بل إن البهيمة لا تضر بنطقها ولكن الكذاب يضر بنطقه فالبهيمة من هذا الوجه خير منه والكذب من خلال المنافقين والصفات البغيضة لله ورسوله ومن يعتاده يكتب عند الله كذابا ويهتدي إلى كل شر بخلاف الذي يصدق ويتحرى الصدق يهديه صدقه إلى خصال الخير ويكتب عند الله صديقا فإن الإنسان الصادق كلما أراد أن يفعل خطأ تذكر أن الناس سيسألونه هل فعلت وهو لا يكذب فينزجر عن خصال الشر بسبب صدقه فيا لها من صفة ما أجملها وأعظم نفعها وأحسنها.
إلا أن الكذب يجوز في أحوال ثلاثة تعلو فيها مصلحته على مفسدته ولا يعد فاعله مذموما فيها عند الناس لظهور كون الكذب فيها من الخير لا من الشر ومن الإصلاح لا من الإفساد ويدل على رجاحة العقل وحسن التقدير لا على خلاف ذلك.
تلك الخصال الثلاثة هي المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم :
"لا يصلح الكذب إلا في ثلاث : يحدث الرجل امرأته والكذب في الحرب والكذب ليصلح بين الناس" رواه الترمذي وحسنه الألباني .
* الكذب في الحرب فلو أن الإنسان المسلم صدق مع الأعداء لعد صدقه ضعفا وجبنا مع ما فيه من ضرر على الإسلام والمسلمين.
*والحال الثانية الكذب في الإصلاح بين الناس. هل يعد من يكذب ليصلح بين متخاصمين مذموما مقترفا لما هو قبيح في العقول والفطر؟ لا والله بل هو مستحق للشكر والثناء لما في كذبه من تسكين الفتنة وطمأنينة القلوب وإراحتها من عناء فوران الحقد وشدة العداوة ولكن في هذا الزمان كثير من الناس بدل أن يكذب ليصلح بين الناس يكذب ليفسد بينهم .
*والحال الثالثة كذب الزوج على زوجته وكذب الزوجة على زوجها لو أخذنا الأمر هكذا مطلقا لكان مستبعدا في العقول والفطر فإن فتح باب الكذب بين الزوجين يفقد ثقة كل منهما بالآخر ويحط منزلته ويثير الشك والريب في كل ما يقول وفي الحقيقة ليس الأمر على إطلاقه فقد ورد ما يقيده جاء في السلسلة الصحيحة - (ج 1 / ص 897) :"عن عطاء بن يسار قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! هل علي جناح أن أكذب ( على ) أهلي ؟ قال : لا ؛ فلا يحب الله الكذب . قال يا رسول الله ! أستصلحها وأستطيب نفسها . قال : لا جناح عليك . قال القاضي عياض : يحتمل أن يكون فيما يخبر به كل منهما بما له فيه من المحبة والاغتباط وإن كان كذبا ؛ لما فيه من الإصلاح ودوام الألفة . وقال الألباني : وليس من الكذب المباح أن يعدها بشيء لا يريد أن يفي به لها أو يخبرها بأنه اشترى لها الحاجة الفلانية بسعر كذا يعني : أكثر من الواقع ترضية لها ؛ لأن ذلك قد ينكشف لها فيكون سببا لكي تسيء ظنها بزوجها وذلك من الفساد لا الإصلاح " انتهى .
إذا الكذب الجائز من كل من الزوجين على الآخر هو الذي يستطيب القلوب ويصلح النفوس كأن يقول الزوج لزوجته إني أحبك وأنت غالية علي وأنت جميلة لا أجمل منك وهي تقول له كذلك لا شك أن هذا الكذب نفعه كبير وفيه إصلاح لشؤون الأسر ولا تصلح إلا بذلك ولو أن كل من كره زوجته صارحها بذلك وصدق معها لهدمت كثير من الأسر والبيوت التي يترتب على هدمها شرور كثيرة ومفاسد عظيمة وعواقب أليمة .
من العلماء من حمل الكذب في هذا الحديث على التورية ولكن الراجح أنه الكذب الحقيقي لأمور ثلاثة :
1- أنه ظاهر النص والأصل التمسك بالظاهر .
2- أنه قد ذكر فيه الكذب في الحرب وهو جائز بلا ريب .
3- أن التورية تجوز بصورة أوسع من ذلك بكثير حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعملها في المزاح .
وهذا القول قد رجحه الإمام النووي وتبعه وأكده شيخنا الألباني رحمهما الله .
4- ويجوز الكذب أيضا لدفع مظلمة، قال ابن حزم : "اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ ، وَغَيْرِ مُدَارَاةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ ، أَوْ إصْلَاحٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، أَوْ دَفْعُ مَظْلِمَةٍ".
5- وذكر ابن القيم في زاد المعاد (ج 3 / ص 305):
"جَوَازُ كَذِبِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَتَضَمّنْ ضَرَرَ ذَلِكَ الْغَيْرِ إذَا كَانَ يَتَوَصّلُ بِالْكَذِبِ إلَى حَقّهِ كَمَا كَذَبَ الْحَجّاجُ بْنُ عِلَاطٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتّى أَخَذَ مَالَهُ مِنْ مَكّةَ مِنْ غَيْرِ مَضَرّةٍ لَحِقَتْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ".
6- وعندما يكون في الصدق مفسدة تربو على مفسدة الكذب يكون الكذب جائزا -إذا لم تكن التورية ممكنة- دفعا للمفسدة الكبرى باحتمال المفسدة الصغرى ولكون الضرورات تبيح المحظورات والله تعالى أعلم .
كتبه أبو معاوية غالب الساقي